اتفق المسلمون على أن للصلوات الخمس أوقاتًا لابد أن تؤدى فيها، والأصل في
هذا قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً
مَّوْقُوتاً}([1]) وإليك تحديد هذه الأوقات وبيان
معالمها:
[1] صلاة الظهر:
وصلاة الظهر هي التي تجب بدخول وقت الظهر، وتسمى صلاة الظهر –أيضًا- (الأولى) لأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم،
وتسمى (الهجيرة) فعن أبي برزة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي
العجيرة التي يدعونها: الأولى حين تدحض الشمس أو تزول»([3]).
أول وقت الظهر: هو زوال الشمس، أي: ميلها عن وسط السماء جهة الغرب، وقد
أجمع العلماء على ذلك لثبوت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى
الظهر حين زالت الشمس، كما في حديث أبي برزة السابق.
وعن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وقت الظهر
إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفَّر
الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط،
ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر، ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن
الصلاة، فإنها تطلع بين قرني شيطان»([4]).
آخر وقت الظهر: اختلف أهل العلم فيه، وأصح الأقوال: أن آخره أن يصير ظل
الشيء مثله سوى مقدار الظل حين الزوال([5])، وهو وقت دخول العصر، وهذا مذهب
الجمهور خلافًا لأبي حنيفة فعنده: آخره أن يكون ظل الشيء مثليه سوى فيء الزوال([6]). واستدل الجمهور بما يلي:
1- حديث ابن عمر السابق: «وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله
ما لم يحضر العصر... ».
2- حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
فصلى الظهر حين زالت الشمس وكان الفيء قدر الشراك، ثم صلى العصر حين كان الفيء قدر
الشراك وظل الرجل، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم
صلى الفجر حين طلع الفجر، ثم صلى من الغد الظهر حين كان الظل طول الرجل، ثم صلى
العصر حين كان ظل الرجل مثليه قدر ما يسير الراكب سير العنق إلى ذي الحليفة، ثم
صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء إلى ثلث الليل أو نصف الليل –شك زيد- ثم صلى الفجر فأسفر»([7]).
وهو محمول على أنه صلى الله عليه وسلم فرغ من الظهر حين صار ظل كل شيء
مثله، وشرع في العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله، فلا اشتراك بينهما([8]). ولا يقال: إنه إذا صار ظل الشيء مثله
دخل وقت العصر ولم يخرج وقت الظهر بل يبقى بعد ذلك قدر أربع ركعات صالح للظهر
والعصر أداء، كما قال بعضهم([9])، ويؤيد ما ذكرنا حديث أبي قتادة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما التفريط على من لم يصلِّ صلاة حتى يجيء
وقت الأخرى»([10]) قلت: فتعيَّن الحمل المتقدم.
فائدة: يمكن معرفة وقت الظهر بطريقة الحساب بالساعات، وذلك بأن يُحسب الوقت
بين طلوع الشمس إلى غروبها، فيكون وقت الظهر في منتصفه تمامًا.
يستحب تعجيل الظهر في أول الوقت: لحديث جابر بن سمرة قال: «كان النبي صلى
الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا دحضت الشمس»([11]) أي: مالت عن وسط السماء جهة المغرب.
ونحوه حديث أبي برزة، وقد تقدم قريبًا.
ويُستحب تأخيرها إذا اشتد الحرُّ:
لحديث أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البر بكَّر بالصلاة،
وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة»([12]).
وحديث أبي ذر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأراد المؤذن
أن يؤذن الظهر، فقال: «أبرد» مرتين أو ثلاثًا، حتى رأينا فيء التلول، ثم قال: «شدة
الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة»([13]).
وحدُّ الإبراد: الصحيح فيه أنه يختلف باختلاف الأحوال بشرط أن لا يمتد إلى
آخر الوقت.
[2] صلاة العصر:
العصر: يطلق على العشى إلى احمرار الشمس، وهو آخر ساعات النهار.
وصلاة العصر هي التي تجب بدخول وقت العصر، وتسمى الصلاة الوسطى.
أول وقت العصر: إذا صار ظل الشيء مثله – عند الجمهور خلافًا لأبي حنيفة في المشهور عنه فقد جعل أوله أن يصير ظل
الشيء مثليه (!!)- والأدلة المتقدمة غب وقت الظهر تدل على قول الجمهور([14]).
آخر وقت العصر:
تعارضت ظواهر الأحاديث في آخر وقت العصر.
ففي حديث جابر في إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: «أنه صلى العصر في
اليوم الأول عند مصير ظل الشيء مثله، واليوم الثاني عند مصير ظل الشيء مثليه....
ثم قال: الوقت بين هذين الوقتين»([15]) وبه قال الشافعي [لكن هذا عند وقت
الاختيار] ومالك في إحدى الروايتين([16]).
وفي حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «... وقت العصر ما لم تصفَّر الشمس»([17]) وبه قال أحمد وأبو ثور ورواية عن مالك([18])، ونحوه حديث أبي موسى في قصة السائل
عن مواقيت الصلاة وفيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في اليوم الأول العصر
والشمس مرتفعة، وفي اليوم الثاني آخر العصر فانصرف منها والقائل يقول: احمرَّت
الشمس... الحديث»([19]).
وفي حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك ركعة من
العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر»([20]) فقال إسحاق وأهل الظاهر([21]): آخر وقتها قبل غروب الشمس بركعة.
قلت: والذي تجتمع عليه هذه الأدلة كلها وغيرها أن يُحمل حديث جبريل على بيان
وقت الاختيار، وحديث ابن عمرو على وقت الجواز، وحديث أبي هريرة على وقت العذر
والاضطرار، فنقول: آخر الوقت المختار مصير ظل الشيء مثليه –بعد اطراح فيء الزوال- ويمتد إلى اصفرار الشمس، ويكره التأخير إلى ما بعد
ذلك لغير عذر، لحديث أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تلك صلاة
المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان، قام فنقرها أربعًا لا يذكر
الله إلا قليلاً»([22]).
فإذا كان هناك عذر أو ضرورة جاز أداؤها –من غير كراهة- قبل غروب الشمس بمقدار ركعة. والله أعلم.
ويستحب التبكير بالعصر:
1- لحديث أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس
مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة»([23]) وبعض العوالي على أربعة أميال من
المدينة.
2- وعن رافع بن خديج قال: «كنَّا نصلي العصر مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثم ننحر الجزور فنقسم عشر قِسَم، ثم نطبخ فنأكل لحمه نضيجًا قبل مغيب الشمس»([24]).
ويتأكد تعجيلها في يوم الغيم: لأنه مظنة التباس الوقت، فإذا وقع التراخي،
فربما خرج الوقت أو اصفرَّت الشمس قبل الصلاة، فعن أبي المليح قال: كنا مع بُريدة
في غزوة في يوم ذي غيم، فقال: بكِّروا بصلاة العصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله»([25]).
الترغيب في المحافظة على صلاة العصر، والترهيب من تفويتها:
1- قال الله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى
وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ}([26]). والصلاة الوسطى هي صلاة العصر –على الصحيح- لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما شغله الأحزاب: «شغلونا عن
الصلاة الوسطى: صلاة العصر»([27]).
2- وعن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم العصر بالمخمص، فقال: «إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيَّعوها،
فمن حافظ عليها كان له أره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد»([28]) والشاهد: النجم.
3- عن عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: «لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» يعني: الفجر والعصر([29]).
4- وتقدم حديث بريدة مرفوعًا: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله».
قال ابن القيم([30]): «والذي يظهر في الحديث –والله أعلم بمراد رسوله- أن الترك نوعان: ترك كلي لا يصليها أبدًا، فهذا
يحبط العمل جميعه، وترك معين في يوم معين، فهذا يحبط عمل ذلك اليوم، فالحبوط العام
في مقابلة الترك العام، والحبوط المعين في مقابلة الترك المعين، فإن قيل: كيف تحبط
الأعمال بغير الردة؟ قيل: نعم، قد دلَّ القرآن والسنة والمنقول عن الصحابة أن
السيئات تحبط الحسنات، كما أن الحسنات يذهبن السيئات، قال تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى}([31]). وقال: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ
وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ
أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ}([32]).
قلت: هذا فيمن تركها مضيعًا لها، متهاونًا بفضل وقتها مع قدرته على أدائها،
والله أعلم.
5- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذي
تفوته صلاة العصر، فكأنما وُتِرَ أهلَه ومالَه»([33]) أي: فكأنما سُلب أهله وماله فأصبح بلا
أهل ولا مال، وهذا تمثيل لحبوط عمله بتركها([34]) على النحو الذي تقدم.
أو يقال: المعنى: فليكن حذره من فوتها كحذره من ذهاب أهله وماله.
[3] صلاة المغرب: المغرب في الأصل: مِن غربت الشمس: إذا غابت وتوارت، ويطلق
في اللغة على وقت الغروب ومَكانه، وعلى الصلاة التي تؤدى في هذا الوقت([35]).
ويطلق على المغرب كذلك العشاء، لكن يكره هذا لقوله صلى الله عليه وسلم –كما في الصحيحين-: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب» وتقول
الأعراب: هي العشاء.
أول وقت المغرب: إذا غربت الشمس وغابت وتكامل غروبها، بالإجماع.
وهذا ظاهر في الصحاري، ويعرف في العمران بزوال الشعاع من رءوس الجبال
وإقبال الظلام من المشرق، وطلوع النجم([36]).
آخر وقت المغرب: اختلف فيه العلماء على قولين:
الأول: أن للمغرب وقتًا واحدًا، بعد الغروب بقدر ما يتطهر المصلي ويستر
عورته ويؤذن ويقيم للصلاة، وهو مذهب مالك والأوزاعي والشافعي([37])، وحجتهم حديث إمامة جبريل –وقد تقدم- وفيه أنه صلى في اليوم الأول والثاني المغرب حين غربت الشمس
وقتًا واحدًا وبما رواه سويد بن غفلة قال سمعت عمر ابن الخطاب يقول: «صلوا هذه
الصلاة والفجاج مسفرة، يعني المغرب»([38]).
الثاني: آخره إلى أن يغيب الشفق: وهو قول الثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور
وأصحاب الرأي وبعض أصحاب الشافعي وصححه النووي واختاره ابن المنذر([39])، وهو الصحيح، والدليل عليه:
1- حديث ابن عمرو مرفوعًا: «ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق... » الحديث،
وقد تقدم.
2- حديث أبي موسى في السائل عن مواقيت الصلاة، وفيه «أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى في اليوم الأول المغرب حين وقبت (أي: غربت) الشمس، وفي اليوم الثاني
آخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق... » وقد تقدم تخريجه، ومثله في حديث بريدة([40]).
3- حديث زيد بن ثابت أنه قال لمروان: ما لك تقرأ في صلاة المغرب بقصار
المفصَّل؟ و«قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولي الطوليين»؟ يعني:
الأعراف([41]).
وقد كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم مبينة حرفًا حرفًا بترتيل مع إتمام
ركوع وسجود، فهذا يدل على أن وقت المغرب ممتد إلى غياب الشفق.
4- حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قُدِّم
العشاء، فابدءوا به قبل صلاة المغرب، ولا تعجَّلُوا عن عشائكم»([42]) وفي لفظ من حديث عائشة «إذا أقيمت
الصلاة وحضر العشاء فابدءوا بالعشاء»([43]) وهو صريح في جواز تأخير صلاة المغرب
إلى ما بعد الطعام بعد دخول وقته.
يستحب تعجيل المغرب:
1- فعن رافع بن خديج قال: «كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله»([45]).
2- وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا
تزال أمتي بخير – أو على الفطرة- ما لم يؤخروا المغرب
حتى تشتبك النجوم»([46]).
[4] صلاة العشاء: العشاء: اسم لأول الظلام من المغرب إلى العتمة، وسميت
الصلاة بذلك لأنها تفعَل في هذا الوقت.
ويقال للصلاة أيضًا: (العشاء الآخرة) كما في قوله صلى الله عليه وسلم:
«أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة»([47]).
ويقال لها كذلك: (العتمة) كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «ولو يعلمون ما
في العتمة والصبح، لأتوهما ولو حبوًا»([48]) لكن قد ورد كراهية ذلك في حديث ابن
عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم
صلاتكم، ألا إنها العشاء، وهم يُعتمون بالإبل»([49]) والتحقيق أن إطلاق العتمة على العشاء
خلاف الأَولى لهذا الحديث كما ذهب إليه مالك والشافعي واختاره ابن المنذر ورجَّحه
ابن حجر.
أول وقت العشاء: أجمع أهل العلم –إلا من شذ منهم- على أن أول وقت العشاء
الآخرة إذا غاب الشفق.
لكنهم اختلفوا في الشفق([50])؟! فالجمهور على أنه: الحُمرة، وأبو
حنيفة وزفر والأوزاعي قالوا: هو البياض بعد الحمرة.
قلت: والأول هو الصواب، لأن الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى حين
غاب الشفق، وقد علم كل من له علم بالمطالع والمغارب أن البياض لا يغيب إلا عند ثلث
الليل الأول([51])، وقد ثبت في حديث عائشة أنهم: «كانوا
يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول»([52]) فصح يقينًا أن الشفق: الحمرة لا
البياض، والله أعلم.
آخر وقت العشاء: اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال مشهورة:
الأول: آخره إلى ثلث الليل: وبه قال الشافعي في الجديد [إلا أن هذه عنده
وقت الاختيار، هذا المذهب، لكن الذي صرَّح به في «الأم» أنه إذا مضى الثل فهي
فائتة] وأبو حنيفة والمشهور من مذهب مالك([53]) وحجتهم: حديث إمامة جبريل للنبي صلى
الله عليه وسلم، وفيه «أنه صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني ثلث
الليل».
الثاني: آخره نصف الليل: وبه قال الثوري وابن المبارك وإسحاق وأبو ثور
وأصحاب الرأي والشافعي في القديم [إلا أنه عند أصحاب الرأي يجزئ بعده مع الكراهة
وعند الشافعي: هو وقت الاختيار وأنه لا يفوته إلى الفجر] وابن حزم.
وحجتهم: حديث عبد الله بن عمرة –الذي تقدم كثيرًا- وفيه: «ووقت العشاء
إلى نصف الليل الأوسط... » وحديث أنس قال: «أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة
العشاء إلى نصف الليل... » ([54])، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى
الأشعري: «... وأن صلِّ العشاء ما بينك وبين ثلث الليل، وإن أخَّرت فإلى شطر
الليل، ولا تكن من الغافلين»([55]).
الثالث: آخره طلوع الفجر الصادق (ولو لغير اضطرار»: وهو قول عطاء وطاوس
وعكرمة وداود الظاهري، وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة، واختاره ابن المنذر([56]) وحجتهم:
قالوا: هو دليل على أنه لا حرج على من أخرها إلى شطر الليل، وإذا كان خروجه
إليهم بعد انتصاف الليل، فصلاته بعد شطر الليل، وإن كان كذلك ثبت أن وقتها إلى
طلوع الفجر([59]).
3- حديث عائشة قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب
عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال: «إنه لوقتها لولا أن أشق على
أمتي»([60]).
الترجيح: أقوى الأحاديث السابقة دلالة على تحديد آخر وقت العشاء هو حديث
عبد الله بن عمرو: «ووقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط... » ورجَّحه الشوكاني لكنه
جعله آخر وقت الاختيار، وأما وقت الجواز فممتد إلى الفجر مستدلاًّ بحديث أبي قتادة
المتقدم، وقال: «فإنه ظاهر في امتداد وقت كل صلاة إلى دخول وقت الصلاة الأخرى إلا
صلاة الفجر، فإنها مخصوصة من هذا العموم بالإجماع» اهـ.
قلت([61]): أما الاستدلال بحديث أبي قتادة على
أن وقت العشاء ممتد إلى طلوع الفجر، ففيه نظر، إذ ليس فيه بيان أوقات الصلاة، ولا
سيق لأجل ذلك، وإنما لبيان إثم من يؤخر الصلاة حتى يخرجها عامدًا عن وقتها مطلقًا
سواء كان يعقبها صلاة أخرى مثل العصر مع المغرب، أو لا، مثل الصبح مع الظهر، وهم
نائمون في سفرهم، واستعظم الصحابة رضي الله عنهم وقوع ذلك منهم، فذكره، فلو كان
المراد ما ذهبوا إليه من امتداد كل صلاة إلى دخول الأخرى، لكان نصًّا صريحًا على
امتداد ذهبوا إليه من امتداد كل صلاة إلى دخول الأخرى، لكان نصًّا صريحًا على
امتداد وقت الصبح إلى وقت الظهر وهم لا يقولون بذلك، ولذلك اضطروا إلى استثناء
صلاة الصبح من ذلك، وهذا الاستثناء على ما بيَّنا من سبب الحديث يعود عليه
بالإبطال، لأنه إنما ورد في خصوص صلاة الصبح، فكيف يصح استثناؤها؟! فالحق أن
الحديث لم يرد من أجل التحديد، بل لإنكار إخراج الصلاة عن وقتها مطلقًا. اهـ.
قلت (أبو مالك): وأما حديث عائشة «حتى ذهب عامة الليل.... » فالمراد بعامة
الليل: كثير منه وليس المراد أكثرهُ، ولابد من هذا التأويل لقوله صلى الله عليه
وسلم: «إنه لوقتها» ولا يجوز أن يكون المراد بهذا القول ما بعد نصف الليل، لأنه لم
يقل أحد من العلماء: إن تأخيرها إلى ما بعد نصف الليل أفضل([62]).
فلا يبقى عند القائلين بامتداد وقت العشاء إلى الفجر (سواء للاختيار أو
الضرورة) إلا حديث أنس: «أخَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف
الليل ثم صلَّى... » ([63]) فإن صح حمله على أنه انتهى من الصلاة
نصف الليل، ويكون قوله (ثم صلَّى) من تصرَّف الرواة، وإلا فالقول قولهم، والله
أعلم.
ويستحب تأخير العشاء:
قد ورد في تأخير العشاء أخبار كثيرة صحاح، وهو مذهب أكثر أهل العلم من
الصحابة والتابعين([64])، ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم:
«لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه»([65]) والحكمة فيه أنه أنفع في تصفية الباطن
من الأشغال المُنْسية لذكر الله تعالى، وأقطع لمادة السمر بعد العشاء، لكن التأخير
ربما يفضي إلى تقليل الجماعة، وتنفير القوم، فلهذا: «كان النبي صلى الله عليه وسلم
يؤخِّر العشاء أحيانًا، وأحيانًا يعجِّل: إذا رآهم اجتمعوا عجَّل، وإذا رآهم
أبطأوا أخَّر... » ([66]).
ويكره النومُ قبلها والحديثُ بعدها: لحديث أبي برزة «أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء، والحديث بعدها»([67]) والعلة في كراهة النوم قبل صلاة
العشاء خشية أن يذهب به النوم فيفوته وقتها، أو يترخَّص الناس في ذلك فيناموا عن
إقامة جماعتها([68]).
وأما كراهة الحديث بعدها، فلأنه ربما يؤدى إلى سهر يفوت به الصبح، أو لئلا
يقع في كلامه لغو، فلا ينبغي ختم اليقظة به، أو لأنه يفوت به قيام الليل لمن له به
عادة، ولتقع الصلاة التي هي أفضل الأعمال خاتمة عمله، والنوم أخو الموت، وربما مات
في نومه([69]). وهذا إذا كان الحديث مما لا فائدة
فيه، فإن كان لحاجة دينية عامة أو خاصة، أو لما يعود على صاحبه بفائدة أو إلى
مصالح المسلمين، فهذا لا بأس به، فقد «كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمر مع أبي
بكر وعمر في أمر من أمور المسلمين»([70]).
[5] صلاة الفجر: الفجر في الأصل: هو الشفق، والمراد به ضوء الصباح، والفجر
في آخر الليل كالشفق في أوله.
والفجر اثنان([72]): الفجر الأول (الكاذب) وهو البياض
المستطيل الذي يبدو في ناحية من السماء –وهو ما يسمى عند العرب بذنب السرحان
(الذئب)- ثم ينكتم فيعقبه الظلام.
والفجر الثاني (الصادق): وهو البياض المستطير المعترض في الأفق، ولا يزال
يزداد نوره حتى تطلع الشمس، وفي الحديث: «لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا
الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق»([73]).
وهذا الفجر الثاني هو الذي تتعلق الأحكام كلها به، لا الأول الكاذب.
ويطلق الفجر على صلاة الفجر لأنها تؤدى في هذا الوقت، وتسمى صلاة الصبح
والغداة.
أول وقت الفجر: أجمع أهل العلم على أن أول وقت صلاة الصبح: طلوع الفجر
الصادق.
آخر وقت الفجر: وأجمعوا على أن آخر وقتها طلوع الشمس.
يستحب التبكير بصلاة الصبح (التغليس):
ذهب جمهور العلماء منهم: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور([74])، إلى أن أداء صلاة الفجر بغلس أفضل من
الإسفار بها([75])، وهو روي عن الخلفاء الأربعة وابن
مسعود، وحجتهم:
(أ) أن الأخبار قد دلَّت على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح
بغَلس، ومن ذلك:
1- حديث عائشة قالت: «كُنَّ نساءُ المؤمنات يشهدن مع النبي صلى الله عليه
وسلم صلاة الفجر، متلفعات بمروطهنَّ ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا
يعرفهن أحدٌ من الغَلَس»([76]).
2- حديث أبي برزة الأسلمي قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي
الصبح ثم ينصرف، وما يعرف الرجل منا جليسه، وكان يقرأ بالستين إلى المائة»([77]).
3- حديث أنس عن زيد بن ثابت قال: «تسحَّرنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثم قُمنا إلى الصلاة، قلت: كم كان مقدار ما بينهما؟ قال: قدر خمسين آية»([78]).
والمدة التي بين الفراغ من السحور والدخول في الصلاة وهي قراءة الخمسين آية
هي مقدار الوضوء، فأشعر ذلك بأنه صلاها في أول وقت الصبح.
4- حديث أبي مسعود الأنصاري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلىَّ صلاة
الصبح مرةً بغلس ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى
مات لم يعد إلى أن يسفر»([79]).
(ب) أن التبكير بها داخل في عموم الأدلة على استحباب تعجيل الصلوات في أول
أوقاتها، وسيأتي بعضها قريبًا.
(د) أن بعض العلماء –كالشافعي وأحمد- يحملون معنى الإسفار على تيقن طلوع
الفجر وتبيينُّه، فلما احتمل الإسفار المعنيين كانت الأخبار الثابتة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم التي لا تحتمل إلا معنى واحدًا أولى.
1- حديث رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسفروا
بالفجر، فإنه أعظم للأجر»([82]) وأجاب ابن حبان عنه فقال: «أراد النبي
صلى الله عليه وسلم بقوله (أسفروا) في الليالي المقمرة التي لا يتبين فيها وضوح
طلوع الفجر، لئلا يؤدي المرء صلاة الصبح إلا بعد التيقُّن بالإسفار بطلوع الفجر،
فإن الصلاة إذا أُديت كما وصفنا كان أعظم للأجر من أن تُصلىَّ على غير يقين من
طلوع الفجر» اهـ([83]).
2- حديث ابن مسعود في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بمزدلفة وفيه: «وصلىَّ
الفجر يومئذ قبل ميقاتها [بغلس].... » الحديث. قالوا: فاعتبروا صلاته صلى الله
عليه وسلم الفجر بغلس قبل وقتها المعروف عند ابن مسعود، فيكون وقتها المعهود
الإسفار.
قلت: وهذا ليس صريحًا في الدلالة، فكونه صلى الفجر بغلس قبل موعده المعهود،
لا ينافي أن يكون المعهود الغلس كذلك لكن متأخر عن هذا، ثم إنه يحتمل أن يكون قوله
(قبل ميقاتها) على ظاهره!!
وقد جمع الطحاوي –رحمه الله، وهو حنفي- بين أدلة التغليس والإسفار بأن يدخل
في الصلاة مغلسًا، ويطول القراءة حتى ينصرف عنها مسفرًا([84]).
قلت: وهذا فعل حسن، لكن يقوى مذهب الجمهور بتفضيل تعجيلها بغلس إذ الخلاف
في وقت الدخول في الصلاة لا الخروج منها والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق