الأربعاء، 21 فبراير 2018

11. مس المصحف. باب الطهارة

وأما مس المصحف:
فقد ذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء إلى أنه لا يجوز للمُحدِث أن يمسَّ المصحف([1])، وغاية ما استدلوا به أمران:
1- قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}([2]).
2- حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابًا وفيه: «لا يمسُّ القرآن إلا طاهر»([3]).
قلت: ويُجاب عما استدلوا به بما يلي:

1- أما الآية الكريمة فلا يتم الاستدلال بها إلا بعد جعل الضمير في (يمسهُّ) راجعًا إلى القرآن، والظاهر الذي عليه أكثر المفسِّرين أنه عائد على الكتاب المكنون الذي في السماء وهو اللوح المحفوظ، والمطهرون: هم الملائكة، ويُشعر بهذا سياق الآيات الكريمة: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}([4]). ويتأيد هذا بقوله تعالى {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ}([5]).
2- وأما الحديث فضعيف لا يصلح للاحتجاج، لأنه من صحيفة غير مسموعة، وفي رجال إسناده خلاف شديد.
وعلى فرض صحته، وأن الضمير في الآية عائد على القرآن، فنقول:
«الطاهر» من المشتركات اللفظية، فيطلق على المؤمن، وعلى الطاهر من الحدث الأكبر، وعلى الطاهر من الحدث الأصغر، وعلى من ليس على بدنه نجاسة، فرجعت المسألة إلى المقرر في الأصول:
فمن أجاز حمل المشترك اللفظي على جميع معانيه، حمله عليها هنا، لن لما كان إطلاق اسم النجس على المؤمن المُحدِث أو الجنب لا يصح لا حقيقة ولا مجازًا ولا لغة لقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن لا ينجس»([6]) وثبت أن المؤمن طاهر دائمًا، امتنع أن يتناوله الآية والحديث، فيتعين حمل اللفظ على من ليس بمشترك، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}([7]). ولحديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو.
ومن قال: المشترك مجمل فيها فلا يعمل به حتى يُبيَّن، قال: لا حجة في الآية أو الحديث حتى ولو صدق اسم الطاهر على من ليس بمحدث حدثًا أكبر أو أصغر([8]).
فعلم أنه لا دليل على إيجاب الوضوء لمسِّ المصحف، وهو مذهب أبي حنيفة وداود وابن حزم وبه قال ابن عباس وجماعة من السلف واختاره ابن المنذر([9])، والله أعلم.
فائدة: قراءة القرآن من غير مسٍّ- للمحدث: سواء الحدث الأصغر أو الأكبر فلا بأس بها في أظهر أقوال العلماء- والأمر فيها أيسر من الأمر في مسِّ المصحف لأمور:
1- لا يصح شيء مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في المنع من القراءة، وكل ما ورد ضعيف لا تقوم به حجة، كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئًا من القرآن»، وحديث ابن رواحة: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحد منا القرآن وهو جنب»، وحديث عبد الله بن مالك: «إذا توضأت وأنا جنب أكلت وشربت، ولا أصلي ولا أقرأ حتى أغتسل» فكلها لا تصح([10]).
2- ثبت عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه»([11]).
3- أنه صلى الله عليه وسلم أمر الحُيَّض بالخروج يوم العيد «فيكُنَّ خلف الناس فيكبرون بتكبيرهم ويدعون بدعائهم... » ([12]) ففيه أن الحائض تكبر وتذكر الله تعالى.
4- وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة وهي حائض: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت»([13]) ومعلوم أن الحاج يذكر الله ويقرأ القرآن.
فعلم أنه لا يُمنع المحدث من قراءة القرآن، قال شيخ الإسلام: وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد. اهـ([14]).
ما يستحب له الوضوء:
1- عند ذكر الله عز وجل: ويدخل فيه مطلق الذكر وقراءة القرآن والطواف بالكعبة وغيرها.
ويستحب الوضوء لذلك، لحديث المهاجر بن قنفذ: «أنه سلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ فلم يرد عليه حتى توضأ، فرد عليه، وقال: «إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة»([15]).
وإن كان هذا ليس بلازم لحديث عائشة عند مسلم (4/ 68): «كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه».
2- عند النوم:
فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت نفسي إليك... » الحديث([16]).
3- للجنب إذا أراد الأكل أو الشرب أو النوم أو معاودة الجماع:
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبًا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة»([17]).
وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ»([18]).
4- الوضوء قبل الاغتسال:
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة»([19]).
5- الوضوء بعد الأكل مما مسته النار (المطبوخ على النار):
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «توضأوا مما مست النار»([20]) والأمر هنا للاستحباب لحديث عمرو بن أمية الضمري قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة، فأكل منها، فدعى إلى الصلاة، فقام وطرح السكين وصلى ولم يتوضأ»([21]).
6- تجديد الوضوء لكل صلاة:
لحديث بريدة رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد.... » الحديث([22]).
7- الوضوء كلما حدث ناقض:
لما تقدم من حديث بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع خشخشته [صوت نعليه] أمامه في الجنة، فقال: «بم سبقتني إليها؟» قال: يا رسول الله، ما أذنت قط إلا صليت ركعتين ولا أصابني حدث قط إلا توضأت عنده، فقال صلى الله عليه وسلم: «لهذا»([23]).
8- الوضوء من القيء:
لحديث معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر فتوضأ»، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت ذلك له، فقال: صدق، أنا صببت له وضوءه([24]).




([1]) سورة الواقعة، الآية: 79.
([2]) ضعيف: له أسانيد ضعيفة وبعضها صحيفة لا سند لها، وقد اختلف في ترقيتها بمجموعها إلى الحسن، فصححه الألباني في «الإرواء» (1/ 158) والأظهر أنه لا يرتقى فالله أعلم.
([3]) سورة الواقعة، الآيات: 77- 79.
([4]) سورة عبس، الآيات: 13- 16.
([5]) صحيح: أخرجه البخاري (279)، ومسلم (371).
([6]) سورة التوبة، الآية: 28.
([7]) مستفاد من «نيل الأوطار» (1/ 260- دار الحديث).
([8]) «البدائع» (1/ 33)، و«حاشية ابن عابدين» (1/ 173)، و«المحلى» (1/ 81)، و«الأوسط» (2/ 103).
([9]) انظرها في «الإرواء» (192، 485) للعلامة الألباني وتعليق الشيخ مشهور على «الخلافيات» للبيهقي (2/ 11) فليراجع.
([10]) صحيح: أخرجه مسلم (373)، وعلقه البخاري قبل الحديث (608).
([11]) صحيح: أخرجه البخاري (971)، ومسلم (890).
([12]) صحيح: أخرجه البخاري (1650).
([13]) «مجموع الفتاوى» (21/ 459)، و«الأوسط» (2/ 97).
([14]) صحيح: أخرجه أبو داود (17)، والنسائي (1/ 16)، وابن ماجه (350)، والدارمي (2/ 287)، وأحمد 05/ 80)، وهو صحيح كما في «السلسلة الصحيحة» (834).
([15]) صحيح: أخرجه البخاري (247)، ومسلم (2710) وغيرهما.
([16]) صحيح: أخرجه البخاري (288)، ومسلم (305) واللفظ له، وأبو داود (222)، والترمذي (118)، والنسائي (1/ 138) وغيرهم.
([17]) صحيح: أخرجه مسلم (3/ 217)، وأبو داود (217)، والترمذي (141)، والنسائي (1/ 42).
([18]) صحيح: أخرجه البخاري (248)، ومسلم (316) وغيرهما.
([19]) صحيح: أخرجه مسلم (351)، وأبو داود (192)، والترمذي (79)، والنسائي (1/ 105)، وابن ماجه (485).
([20]) صحيح: أخرجه البخاري (1/ 50)، ومسلم (4/ 45 نووي)، وابن ماجه (490).
([21]) صحيح: أخرجه مسلم (277)، وأبو داود (171)، والترمذي (61)، والنسائي (1/ 89)، وابن ماجه (510).
([22]) إسناده صحيح. أخرجه بذكر الوضوء عند الحدث: الترمذي (3689)، وأبو داو (3055)، وأحمد (21962) واللفظ له، وأصله في الصحيحين دون موضع الشاهد.
([23]) صحيح: أخرجه الترمذي (87)، وأبو داود (2381) بسند صحيح.
([24]) «نيل الأوطار» (1/ 241). 
Post a Comment

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق