الأربعاء، 21 فبراير 2018

18. مسائل تتعلق بالغسل .... باب الطهارة

مسائل تتعلق بالغسل
لا يلزم الوضوء بعد الغسل:
من اغتسل غسلاً شرعيًا وأراد أن يصلي فلا يلزمه أن يتوضأ، حتى وإن لم يكن توضأ في اغتساله، فإن طهارة الجنابة تقضي على طهارة الحدث، لأن موانع الجنابة أكثر من موانع الحدث، فدخل الأقل في الأكثر.

فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوضأ بعد الغسل من الجنابة»([1]) وفي رواية: «يغتسل ويصلي ركعتين، ولا أراه يُحدث وضوءًا بعد الغسل»([2]).
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «إذا لم تمسَّ فرجك بعد أن تقضي غُسلك، فأي وضوء أسبغ من الغسل»([3]).
قلت: ويتفرَّع على هذا انه لا يجب على المغتسل من الجنابة أن ينوي رفع الحدث الأصغر، وهو مذهب الجمهور واختاره ابن تيمية([4]). وعند الحنابلة أنه إذا نوى الطهارتين أجزأ منهما، وإن نوى الغسل وحده فليس له إلا ما نوى([5]).
إذا اجتمع موُجِبان للغسل: كحيض وجنابة، أو جنابة وجمعة، فإنه يجزئ عنهما غسل واحد إذا نواهما معًا، وهو قول أكثر أهل العلم([6]).
إذا أجنبت المرأة ثم حاضت قبل أن تغتسل:
فأصلح أقوال العلماء أنه لا يلزمها أن تغتسل للجنابة وإنما يلزمها إذا طهرت أن تغتسل للجنابة والحيض معًا وتنويهما جميعًا، وهذا مذهب أحمد([7]) وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يلزمها الغسل للجنابة ثم إذا زالت الحيضة اغتسلت للحيض، وهو مذهب عطاء والنخعي والحسن، وقال بعضهم: يلزمها غسل فرجها ثم إذا طهرت تغتسل، ولا حجة لأحد هذين القولين، والصواب الأول.
ولا ينفي هذا أنها إذا أرادت أن تغتسل للجنابة أو أن تغسل فرجها ثم تغتسل إذا طهرت – فعلت ولا حرج عليها، وإنما لا يلزمها.
يجوز غُسل الرجل بفضل ماء المرأة: وقد تقدم تحريره في «أحكام المياه».
يجوز للرجل الاغتسال مع زوجته: ويجوز لكل منهما أن ينظر لعورة الآخر من غير كراهة، فعن عائشة قالت: «وكنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد [فيبادرني حتى أقول: دع لي دع] كلانا جنب»([8]).
لا يجوز الاغتسال عريانًا أمام الناس: فإن استتر عن نظر الناس فلا بأس، وقد تقدم في حديث ميمونة «وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماءً للغسل [وسترته] فغسل يديه.... الحديث».
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام اغتسل عريانًا([9]) وكذلك أيوب عليه السلام([10]) وهذا في الخلوة.
من أَحْدَثَ أثناء الغُسل:
الجنب إذا أحدث قبل أن يتم غُسله فإنه يتمُّه ولا يعيده، لأن الحدث لا ينافي الغسل، فلا يؤثر وجوده فيه كغير الحدث، وإنما عليه أن يتوضأ، وهذا قول أكثر أهل العلم منهم: عطاء والثوري ويشبه مذهب الشافعي واختاره ابن قدامة وابن المنذر([11]).
مسائل تتعلق بالجُنُبِ:
يجوز للجُنب تأخير الغُسل: ولا يجب عليه أن يغتسل فور حصول الجنابة، وإن كان الأفضل والأزكى المبادرة بالغسل.
فعن أبي هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة، وهو جنب، فانخنس منه، فذهب فاغتسل، ثم جاء فقال: «أين كنت يا أبا هريرة؟» قال: كنت جنبًا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: «سبحان الله، إن المسلم لا ينجس»([12]).
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذ تسع نسوة»([13]).
ثم إن التعجيل بغسل الجنابة إنما هو للصلاة بالدرجة الأولى، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما نام قبل أن يغتسل كما سيأتي.
يجوز للجنب أن ينام قبل أن يغتسل، إذا توضأ:
فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب، غسل فرجه، وتوضأ وضوءه للصلاة»([14]).
وسألها عبد الله بن قيس قال: «كيف كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنابة؟ أكان يغتسل قبل أن ينام أم ينام قبل أن يغتسل؟ فقالت: «كل ذلك قد كان يفعل، ربما اغتسل فنام، وربما توضأ فنام» فقال: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة»([15]).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب –لما سأله عن الجنابة تصيبه من الليل-: «توضأ، واغسل ذكرك، ثم نَمْ»([16]).
لا حرج على الجنب في قراءة القرآن ومس المصحف:
وقد تقدم تحريره في «الوضوء» فليراجع.
هل يجوز للحائض والجنب دخول المسجد والمكث فيه؟
ذهب جمهور أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم –خلافًا للظاهرية- إلى تحريم مكث الحائض والنفساء والجنب في المسجد، وهو مروي عن ابن عباس وابن مسعود من الصحابة([17]).
واستدل المانعون بما يأتي:
1- قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ... }([18]).
قالوا: المراد بالصلاة: مواضع الصلاة وهي المساجد، ففي الآية منع الجنب من دخولها إلا في حالة كونه مسافرًا، ثم قاسوا الحائض والنفساء على الجنب!!
وأجاب المبيحون: بأن هذا أحد تأويلي السلف لمعنى الآية، والتأويل الآخر أن المراد الصلاة ذاتها لا المسجد فيكون المعنى: ولا تقربوا الصلاة جنبًا إلا بعد أن تغتسلوا إلا في حال السفر فصلُّوا بالتيمم ولذا قال بعدها: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ}.
ثم في قياس الحائض على الجنب نظر، لأن الحائض معذورة ولا يمكن أن تغتسل قبل أن تطهر ولا تملك رفع حيضتها، بخلاف الجنب فيمكنه الاغتسال.
2- حديث جسرة بنت دجاجة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني لا أُحِلُّ المسجد لحائض ولا جنب»([19]).
وأجاب المبيحون: بأن الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج به، فإن مداره على جسرة وهي لا تحتمل التفرد.
3- حديث أم عطية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج العواتق وذوات الخدور، والحيض في صلاة العيد ليشهدن الخير، ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيض المصُلَّى»([20]).
قالوا: فإذا كان هذا في شأن مصلى العيد فالمسجد أولى بالمنع.
وأجاب المبيحون: بأن المراد بالمصلى في الحديث: الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون العيد في الفضاء لا في المسجد، والأرض كلها مسجد ولا يجوز أن يخص المنع بعض المساجد دون البعض.
ثم قد رُوى الحديث نفسه بلفظ «فأما الحيض فيعتزلن الصلاة» وهي في صحيح مسلم وغيره.
4- حديث عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصغى إليَّ رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجِّله وأنا حائض»([21]) قالوا: فامتنعت من ترجيله في المسجد لأنها حائض.
وأجاب المبيحون: بأنه ليس صريحًا فيما استدلوا به، فقد يكون عدم دخولها لعلة أخرى غير الحيض كأن يكون بالمسجد رجال ونحو ذلك.
ثم استدل المبيحون لدخول الحائض والجنب المسجد بما يأتي:
1- البراءة الأصلية، فحيث لم يصح النهي فالأصل الإباحة وقد أبيح للمسلم أن يصلي في أي مكان أدركته فيه الصلاة.
2- أنه قد ثبت أن المشركين دخلوا المسجد وقد حبسهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}([22]).
وأما المسلم فهو طاهر على كل حال لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن المسلم لا ينجس»([23]) فكيف يمنع المسلم دخوله ويباح للكافر؟!
وأجاب المانعون: بأن الشرع فرَّق بين المسلم والكافر، فقام الدليل على تحريم مكث الجنب والحائض(!!) وثبت حبس الكفار فيه، فإذا فرَّق الشرع لم يجز التسوية، فهذا قياس مع النص وهو فاسد(!!) قلت: هذا إذا ثبت النص كما لا يخفى!
3- حديث عائشة: «أن وليدة سوداء كانت لحي من العرب، فأعتقوها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد»([24]).
قالوا: فهذه امرأة ساكنة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمعهود من النساء الحيض، فلم يمنعها صلى الله عليه وسلم من ذلك ولا أمرها أن تعتزله في حيضتها.
وأجاب المانعون: الظاهر أن هذه المرأة لم يكن لها أهل ولا مأوى سوى المسجد فكان مقامها فيه اضطرارًا، فلا يقاس عليها غيرها وهذه واقعة حالة خاصة فلا يعارض بها الدليل الصريح (!!) في المنع.
4- حديث أبي هريرة «في المرأة التي كانت تَقُمُّ المسجد وماتت فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.... » ([25]).
فهذه امرأة غير مضطرة تقم المسجد في كل وقت ولم ينهها النبي صلى الله عليه وسلم عن اعتزال المسجد في الحيض.
5- حديث أبي هريرة في مبيت أهل الصفة في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم([26]).
وأجاب المانعون: بأن أهل الصفة لم يكن لهم أهل ولا مال كما هو واضح في نص الحديث.
6- ثبت في الصحيح «أن ابن عمر كان ينام في المسجد وهو شاب عزب لا أهل له»([27]).
والشاب يعتريه الاحتلام كثيرًا ولم يُنه عن المكث في المسجد حال الجنابة.
وأجاب المانعون: بأنه لم يُذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على هذا منه وأقره!!
وردَّ المبيحون: بأنه لو خفى هذا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يخفى على الله تعالى فكان ينبغي أن يخبره الوحي بذلك فينهاه، وأجيب: بأنه لا يلزم أن ينزل الوحي معلمًا بكل خطأ من حصابي، فكم وقع الصحابة في مخالفات لعدم علمهم بالدليل الوارد في المسألة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
7- أن عائشة رضي الله عنها لما حاضت في الحج فأجاز لها ما يفعل الحاج ولم ينهها إلا عن الطواف بالبيت([28])، فدلَّ على جواز دخولها المسجد، لأن الحاج له ذلك.
وأجاب المانعون: أنه إنما أراد أن يعلمها أنه يجوز للحائض أن تقوم بكل مناسك الحج إلا الطواف، وأما حكم دخولها المسجد فمعلوم عندها أنه ممنوع إذ هي رواية الحديث، ثم إنه لم ينهها عن الصلاة وهي حائض –والحجاج يصلون- فهل يقال: إن لها أن تصلي وهي حائض؟!!
قلت: وهذا جواب متجه لكن إذا ثبت حديث النهي وهو ضعيف.
8- حديث عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناوليني الخمرة من المسجد» فقلت: إني حائض، قال: «إن حيضتك ليست في يدك»([29]) وهذا مشعر أن الخمرة كانت في المسجد فأصرَّ على دخولها المسجد لمناولته الخمرة.
وأجاب المانعون: بأن الحديث ورد بلفظ آخر: «بينما رسول الله في المسجد فقال: «يا عائشة ناوليني الثوب» فقالت: إني حائض، فقال: «إن حيضتك ليست في يدك»([30]). وهو صريح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في المسجد وكانت عائشة والخمرة خارجه. فأمرها بإدخال يدها لا بأن تدخل بنفسها.
قلت: هذا الحديث محتمل فينبغي إسقاطه من أدلة الفريقين.
9- أثر عطاء بن يسار قال: «رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد، وهم مجنبون، إذا توضأوا وضوء الصلاة»([31]).
قلت: بعد هذا العرض لحجج المانعين والمبيحين لمكث الجنب والحائض والنفساء في المسجد، فالذي يظهر أن أدلة المانعين لا ترقى للقطع بالحُرمة، وإن كنت أتوقف في هذه المسألة، والله أعلم بالصواب.



([1]) صحيح لغيره: أخرجه الترمذي (107)، والنسائي (1/ 137)، وابن ماجه (579).
([2]) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (250)، وأحمد (6/ 119).
([3]) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (1039).
([4]) «المبسوط» (1/ 44)، و«الشرح الصغير» (1/ 65)، و«الأم» (1/ 36)، و«مجموع الفتاوى» (21/ 397)، و«المحلى» (2/ 44).
([5]) «العدة شرح العمدة» (ص 48).
([6]) «المغنى» (1/ 292) بل نقل في «رحمة الأمة في اختلاف الأئمة» (ص 51) الإجماع عليه، وهذا منقوض بخلاف ابن حزم في «المحلى» (ص/ 42- 47). ووافقه العلامة الألباني في «تمام المنة» (ص 126).
([7]) صحيح: أخرجه البخاري (299)، ومسلم (321).
([8]) صحيح: أخرجه البخاري (299)، ومسلم (321).
([9]) صحيح: أخرجه البخاري (278)، ومسلم (339).
([10]) صحيح: أخرجه البخاري (279).
([11]) «المغنى» (1/ 290)، و«الأوسط» (2/ 112).
([12]) صحيح: أخرجه البخاري (283)، ومسلم (371).
([13]) صحيح: أخرجه البخاري (284)، ومسلم (309).
([14]) صحيح: أخرجه البخاري (288)، ومسلم (305).
([15]) صحيح: أخرجه مسلم (307).
([16]) صحيح: أخرجه البخاري (209)، ومسلم (306).
([17]) «المجموع» (2/ 184) وما بعدها، و«المغنى» (1/ 145)، و«اللباب شرح الكتاب» (1/ 43) وأجاز الشافعي وأحمد المرور في المسجد دون المكث، و«المحلى» (2/ 184) وما بعدها).
([18]) سورة النساء، الآية: 43.
([19]) ضعيف: أخرجه أبو داود (2332)، والبيهقي (2/ 442)، وابن خزيمة (2/ 284)، وانظر «الإرواء» (193).
([20]) صحيح: أخرجه البخاري (324)، ومسلم (890).
([21]) صحيح: أخرجه البخاري (2029)، وسيأتي في «الاعتكاف».
([22]) سورة التوبة، الآية: 28.
([23]) صحيح: وقد تقدم قريبًا.
([24]) صحيح: أخرجه البخاري (439).
([25]) صحيح: أخرجه البخاري (458)، ومسلم (956) وفيهما على الشك هل هي امرأة أو رجل لكن يتأيد أنها امرأة بلفظ الحديث عند ابن خزيمة والبيهقي (4/ 48) بسند حسن.
([26]) صحيح: أخرجه البخاري (6452)، والترمذي (479).
([27]) صحيح: أخرجه البخاري (3530)، ومسلم (2479).
([28]) صحيح: أخرجه البخاري (1650)، وسيأتي في «الحج».
([29]) إسناده صحيح: أخرجه مسلم (298)، وأبو داود (261)، والترمذي (134)، والنسائي (2/ 192).
([30]) إسناده صحيح: أخرجه مسلم (299)، والنسائي (1/ 192).
([31]) إسناده حسن: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (4/ 1275). 
Post a Comment

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق