الأربعاء، 21 فبراير 2018

19. التيمم .... باب الطهارة

التيمُّم([1])
التيمم لغة وشرعًا([2]):
التيمم لغة: القصد، يقال: (تيممت فلانًا ويممته وتأممته وأممته، أي: قصدته).
قال تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ}([3]).
وشرعًا: القصد إلى الصعيد (وجه الأرض) للتطهير لاستباحة ما يبيحه الوضوء والغسل.
مشروعية التيمم:

ثبتت مشروعية التيمم بالكتاب والسنة والإجماع:
1- فمن الكتاب: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً}([4]).
2- ومن السنة:
-قول النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدًا وطهورًا، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة، فعنده مسجده وعنده طهوره»([5]).
-وحديث عمران بن حصين قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رأى رجلاً معتزلاً لم يصلِّ مع القوم، فقال: «يا فلان، ما منعك ألا تصلي مع القوم؟» فقال: يا رسول الله، أصابتني جنابة ولا ماء، فقال: «عليك بالصعيد فإنه يكفيك» فلما حضر الماء أعطى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل إناء من ماء فقال: «اغتسل به»([6]).
3- وأما الإجماع: فقال: ابن قدامة في «المغنى (1/ 148):
«وأما الإجماع، فأجمعت الأمة على جواز التيمم في الجملة» اهـ.
عَمَّ يجزئ التيمم؟
التيمم بدل عن الوضوء والغسل عند انعدام الماء أو تعذُّر استعماله، قال النووي: هذا مذهبنا وبه قال العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إلا عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود([7]) وإبراهيم النخعي التابعي، فإنهم منعوه [يعني: منعوا التيمم عن الحدث الأكبر] قال ابن الصباغ وغيره: وقيل: إن عمر وعبد الله رجعا.
واحتج أصحابنا والجمهور بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ}. ثم قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ} وهو عائد إلى المحدث والجنب جميعًا.... اهـ([8]).
قلت: وثمة دليل آخر على مشروعية التيمم من الحدث الأكبر، وهو قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً}([9]).
فالمراد بالملامسة في الآية: الجماع، على قول فريق من أهل العلم منهم ابن عباس رضي الله عنهما([10]).
ثم قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على إجزاء التيمم عن الجنابة ومن ذلك:
1- حديث عمران بن حصين المتقدم وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أصابته جنابة: «عليك بالصعيد فإنه يكفيك»([11]).
2- حديث عمار بن ياسر قال: أجنبت فتمعَّكْت في التراب، فأخرت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «إنما كان يكفيك هكذا: وضرب يديه على الأرض، ومسح وجهه وكفيه»([12]).
هل يُيَّمَّم الميت إذا عُدم الماء؟
يُيمم الميت كالحي إذا عدَم الماء، لأن غسله فرض، وقد تقدم أن التراب طهور إذا لم يوجد الماء، وهذا عام لكل طهور واجب ولا خلاف في أن كل غسل طهور([13]).
الأحوال التي يباح فيها التيمم
يُباح التيمم في حالتين: 1- عند انعدام الماء سواء في السفر أو الحضر.
2- عند تعذُّر استعماله، ولهذا صور تأتي، إن شاء الله.
قال الله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ}([14]).
لا يشترط أن يكون السفر طويلاً حتى يشرع للمسافر التيمم.
للمسافر –إذا عدم الماء- أن يتيمم سواء كان سفره طويلاً أو قصيرًا في أصح قولي العلماء([15])، لإطلاق السفر في الآية الكريمة.
ويشهد لذلك:
1- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، انقطع عقد لي، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء.... فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله تبارك وتعالى آية التيمم: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً}... »([16]).
2- وعن ابن عمر: «أنه أقبل من الجرف حتى إذا كان بالمربد تيمم فمسح وجهه ويديه، وصلى العصر ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد الصلاة»([17]).
قال الشافعي: (الجرف) قريب من المدينة.
الصحيح أن المسافر يتيمم في سفره –إذا عدم الماء- سواء سافر لطاعة أو لمعصية، لأن التيمم عزيمة فلا يجوز تركه بخلاف بقية الرخص، ولأنه حكم لا يختص بالسفر فأبيح في سفر المعصية كمسح يوم وليلة([18]).
قلت: ولأنه لا يسقط عنه فرض فلزمه أن يحقق شرط صحتها (التيمم) ويبقى في حقه الإثم لأجل سفر المعصية. والله أعلم.
من كان معه ماء لا يكفي إلا لبعض أعضائه: فلأهل العلم في هذه المسألة مذهبان:
الأول: أنه يغسل ما استطاع من أعضاء ويتيمم عن الباقي:
وهو مذهب أحمد، وأحد القولين للشافعي، وبه قال ابن حزم([19]) وحجتهم:
قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}([20]).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم»([21]).
قال ابن حزم: وهذا مستطيع لأن يأتي ببعض وضوئه أو ببعض غسله، غير مستطيع على باقيه، ففرض عليه أن يأتي من الغسل بما يستطيع في الأول من أعضاء الوضوء وأعضاء الغسل حيث بلغ، فإذا نفد لزمه التيمم لباقي أعضائه ولابد، لأنه غير واجد للماء في تطهيرها، فالواجب عليه تعويض التراب كما أمره الله تعالى... اهـ.
الثاني: أنه يتيمم ابتداء: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحد القولين عند الشافعية، وبه قال جماعة من السلف([22]).
قالوا: لأنه لا يجمع بين طهارة الماء وطهارة التيمم، إما هذا وإما هذا، واحتج ابن المنذر لهذا المذهب فقال([23]):
«قال الله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ} الآية، فأوجب على الجنب الاغتسال بالماء، فإن لم يجد تيمَّمَ، وأوجب على المُظاهر رقبة، فإن لم يجد صام شهرين، فلما كان الواجد بعض رقبة في معنى من لا يجد، وفرضه الصوم، كان الواجد من الماء ما يغسل به بعض بدنه في معنى من لا يجد، وفرضه الصوم، كان الواجد من الماء ما يغسل به بعض بدنه في معنى من لا يجد وفرضه التيمم، والجواب في المتمتع يجد بعض ثمن الهدى، والحانث في يمينه يجد ما يطعم أقل من عشرة مساكين، حكم من ذكرنا، فأما أن يفرض على بعض من ذكرنا فرضين فغير جائز» اهـ.
قلت: ولعل الأظهر أنه يتيمم ابتداءً، لعدم الجمع بين الأصل والبدل، ولأنه لو لم يكن معه ما يكفي جميع أعضاء الوضوء أو الغسل، فاستعمل البدل (التيمم) فإنه يكون أتى ما استطاع من أمر الله ورسوله كذلك، على أن الذي يظهر لي أن هذا الذي يتيمم بعد غسل بعض الأعضاء إنما حصلت له الطهارة بالتيمم وحده لا بمجموع الغسل والتيمم، فلم يكن لغسل بعض الأعضاء –مع تيقن عدم كفاية الماء – معنى والله أعلم.
من كان معه ماء، إلا أنه يخاف على نفسه أو رفيقه أو دابته العطش إن استعمله:
قال ابن المنذر([24]):
«أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المسافر إذا خشي على نفسه العطش ومعه مقدار يتطهر به من الماء، أنه يُبقى ماءه للشرب ويتيمم» اهـ.
وقال ابن قدامة([25]): «والخائف على بهائمه خائف من ضياع ماله فأشبه ما لو وجد ماء بينه وبينه لص أو سبع يخافه على بهيمته أو شيء من ماله، وإن وجد عطشان يخاف تلفه لزمه سقيه وتيمم» اهـ.
[مسألة]: إذا اجتمع ميِّتٌ، وجنبٌ، وحائضٌ، ومن على بدنِه نجاسةٌ، والماءُ لا يكفي إلا أحدَهم فمن أحق به؟
1- إذا كان الماء ملكًا لأحدهم فهو أحق به، وبهذا قطع الجمهور([26]).
2- وإذا كان الماء مباحًا لهم، فعلى ما يأتي:
(أ) الميت أحق به من أصحاب الأحداث، كما قال الشافعي وأحمد([27]) وذلك لعلتين، إحداهما: أنه خاتمة أمره فخُصَّ بأكمل الطهارتين، والأحياء سيجدون الماء، والثانية: أن القصد من غسل الميت تنظيفه ولا يحصل بالتراب، والقصد من طهارة الأحياء استباحة الصلاة، وهي حاصلة بالتيمم.
(ب) صاحب النجاسة أحق بالماء من أصحاب الأحداث، وبه قال الشافعية والحنابلة([28])، قال النووي: لأنه لا بدل لطهارته. اهـ.
(جـ) الحائض أحق بالماء من الجنب، لغلظ حدثها، ولأنها تقضي حق الله تعالى وحق زوجها في إباحة وطئها.
وفي المسألة خلاف: فعند الحنابلة والشافعية وجهان وعند الشافعية وجه ثالث وهو أنهما يستويان ويقرع بينهما([29]).
(ء) إذا اجتمع الجنب والمحدث: فالعبرة بالماء الموجود فإن كان يكفي للاغتسال فالجنب أحق به وإلا فالمحدث([30]).
(هـ) إذا اجتمع الميت ومن على بدنه نجاسة، ففيه خلاف([31])، فمن اعتبر العلة التي ذكرناها في تقديم الميت على المحدث قال: الماء من حق الميت.
ومن اعتبر أن من على بدنه نجاسة لا بدل لطهارته، قال: هو الأحق.
تيمم المريض الذي يخشى على نفسه الهلاك من استعمال الماء:
ذهب جمهور العلماء (أبو حنيفة والشافعي وأحمد وابن حزم وغيرهم) إلى أن المريض إذا خشي على نفسه الهلاك من استعمال الماء، فيجوز له أن يتيمم، لقوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ..... فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ}([32]). قال مجاهد: «وهي للمريض تصيبه الجنابة إذا خاف على نفسه فله الرخصة في التيمم مثل المسافر إذا لم يجد الماء»([33]). ولقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}([34]).
بينما منع عطاء([35]) والحسن تيمم المريض إلا عند فقد الماء، لظاهر الآية.
والجواب عن هذا: أن الآية حجة لنا وتقديرها: (وإن كنتم مرضى فعجزتم أو خفتم من استعمال الماء، أو كنتم على سفر فلم تجدوا ماءً، فتيمموا) ([36]).
إذا خاف المريض –باستعماله الماء- زيادة المرض أو تأخر البرؤ فهل يتيمم؟
ذهب الجمهور([37]) (أبو حنيفة ومالك والشافعي في أحد القولين وابن حزم) إلى أنه لا يشترط خوف الهلاك حتى يتيمم المريض، بل من كان الوضوء يزيد مرضه أو يؤخر برؤه، فإنه يتيمم، لعموم آية المائدة.
ولعموم قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}([38]).
قال ابن حزم: فالحرج والعسر ساقطان –ولله الحمد- سواء زادت علته أو لم تزد، وكذلك إن خشي زيادة علته فهو أيضًا عسر وحرج. اهـ.
ورُوى عن أحمد والشافعي في أحد قوليه: أنه يشترط خوف الهلاك لإباحة التيمم، ومذهب الجمهور أصح والله أعلم.
من كانت به جراح، فماذا يفعل؟
هذه المسألة تتفرع على أصل وهو: (هل يُجمع بين الأصل والبديل أي الوضوء –أو الغسل- والتيمم أم لا؟) وقد تقدم تحريره([39]).
فمن منع الجمع بينهما –كأبي حنيفة ومالك وهو ما رجَّحناه قريبًا- ذهب إلى اتباع الأقل للأكثر، بحيث إذا كان أكثر جسده جريحًا تيمم دون غسل باقي الأعضاء الصحيحة، وإن كان أكثر صحيحًا غسل جسده وترك موضع الجرح([40]).
ومن أجاز الجمع بين الغسل والتيمم قال: يغسل الصحيح من الجسد ويتيمم عن المجروح، وهو قول الشافعي وأحمد، وكأنه اختيار شيخ الإسلام([41]).
قلت: والظاهر أن الأول أصح –كما تقدم- ولا يصح في هذا الباب شيء من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن يُروى حديث جابر قال:
خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم فقال لأصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك، قال: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العيي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم [ويعصر –أو يعصب- على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده]» ([42]).
وهو حديث ضعيف ضعَّفه البيهقي وابن حزم وغيرهما وهو كذلك، وإن كان قد حسنه –بدون ما بين المعكوفتين- الألباني بما لا يُسَلَّم.
وقد رُوى عن ابن عمر قال: «إذا لم تكن على الجرح عصائب، غسل ما حوله، ولم يغسله»([43]).
وقد صح عن عبيد بن عمير في رجل أصابته جنابة وبه جراحة: «ليغسل ما حوله ولا يقرب جراحته الماء»([44]).
وهذا موافق لمذهب أبي حنيفة ومالك، وهو الراجح والله أعلم.
هل يجوز لمن خشي على نفسه برودة الماء أن يتيمم للجنابة؟
يجوز لمن خشي على نفسه الموت بسبب برودة الماء أن يتيمم، لأنه بمنزلة المريض، وهذا مذهب جماهير العلماء([45])، وحجتهم في هذا: 1- قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}([46]).
2- ما رُوى عن عمرو بن العاص أنه لما بعث في غزوة ذات السلاسل قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرودة فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فقال: «يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جُنب؟» فقلت: ذكرت قول الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}. فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا»([47]).
وهذا حديث مختلف فيه، والراجح ضعفه، إلا أن قواعد الشرع تشهد له، ويؤيد هذا المذهب كذلك قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ}([48]). وذلك بعد ذكر التيمم، فكأنه أشار إلى أن التيمم يشرع عند وجود الحرج في استعمال الماء، ولا شك أن شدة البرودة من هذا الحرج، لكن ينبغي أن ينبه على أن التيمم لا يُشرع –في هذه الحالة- إلا بعد العجز عن تسخين الماء، والله أعلم.
من ضاق عليه الوقت بحيث لو استعمل الماء فات وقت الصلاة، فهل له أن يتيمم؟
في هذه المسألة قولان للعلماء:
الأول: لا يجوز له التيمم وإن فات الوقت:
وبه قال الشافعية والحنابلة وأبو يوسف([49])، وحجتهم ما يلي:
1- قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ... فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ}([50]). قالوا: فجعل فقدان الماء شرطًا لإباحة التيمم.
2- حديث أبي هريرة مرفوعًا: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ»([51]).
3- حديث ابن عمر مرفوعًا: «لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول»([52]).
فهو مأمور باستعمال الماء فإن أدرك الصلاة فبها، وإن فاتت –بكسبه وتكاسله- فهو الذي سعى إلى هذه النتيجة.
الثاني: يشرع له التيمم والصلاة قبل خروج الوقت:
وبه قال أهل الرأي والأوزاعي ومالك وابن حزم واختاره شيخ الإسلام([53])، وقيده الأحناف بأنه يجوز إذا كانت الصلاة التي تفوت لا بدل لها كالجنازة([54]).
وحجة القائلين بهذا القول:
1- حديث أبي جهيم الأنصاري قال: «أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلَّم عليه، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى على جدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام»([55]).
قالوا: فهذا أصل في جواز التيمم لخوف فوات الواجب.
2- قال ابن عبد البر في «الاستذكار» (3/ 171): فكل من لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة كان له أن يتيمم إن كان مريضًا أو مسافرًا بالنص، وإن كان حاضرًا صحيحًا فبالمعنى، والله تعالى أعلم. اهـ.
3- قال شيخ الإسلام: وأصح أقوال العلماء أنه يتيمم لكل ما يخاف فوته كالجنازة وصلاة العيد وغيرهما مما يخاف فوته، فإن الصلاة بالتيمم خير من تفويت الصلاة... اهـ.
وقال وكذلك إذا لم يمكنه صلاة الجماعة الواجبة إلا بالتيمم، فإنه يصليها بالتيمم. اهـ.
قلت: ولعل الأظهر أنه يتيمم حتى يدرك الصلاة، لأن التيمم إنما شرع لإدراك وقت الصلاة وخوف فوته، محافظة على الوقت، والله أعلم.
من استيقظ من نومه وقد ضاق وقت الصلاة، فهل يتيمم لإدراك الوقت؟
في هذه المسألة مذهبان([56]) كالذين في المسألة التي قبلها:
الأول: يتيمم ويصلي في الوقت: وبه قال مالك والأوزاعي والثوري وابن حزم.
الثاني: يغتسل ويصلي ولو بعد خروج الوقت: وهو مذهب الجمهور: أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأحد القولين عن مالك، واختاره شيخ الإسلام.
وهو الراجح، لأن الوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أما إنه ليس في نوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه بها»([57]) قال ابن تيمية (»/ 35): وإذا كان كذلك فإذا استيقظ قبل طلوع الشمس فلم يمكنه الاغتسال والصلاة إلا بعد طلوعها، فقد صلى الصلاة في وقتها ولم يفوتها، بخلاف من استيقظ في أول الوقت فإن الوقت في حقه قبل طلوع الشمس فليس له أن يفوت الصلاة... اهـ.
ما الصعيد الذي يجوز التيمم به؟
لأهل العلم في «الصعيد» الذي يجوز التيمم به رأيان:
الأول: وجه الأرض مطلقًا سواء الحصباء والجبل والرمل والتراب:
وهذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومالك واختاره شيخ الإسلام، وكذا ابن حزم لكنه اشترط فيما إذا كان وجه الأرض –من غير التراب- أن يكون متصلاً بها([58]).
ومما احتج به هؤلاء:
1- قوله تعالى: {صَعِيداً زَلَقاً}([59]). وقوله: {صَعِيداً جُرُزاً}([60]). قال في الاستذكار (3/ 158): و(الجرز) الأرض الغليظة التي لا تنبت شيئًا. اهـ.
2- قوله صلى الله عليه وسلم: «... وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»([61]).
3- قوله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة على صعيد واحد»([62]) أي: أرض واحدة.
4- قوله صلى الله عليه وسلم: «جعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدًا وطهورًا، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره»([63]).
5- حديث أبي الجهيم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب بيديه على الجدار فتيمم على الرجل السلام»([64]).
6- ما رُوى عن ابن عباس أنه قال: «أطيب الصعيد الحرث وأرض الحرث»([65]).
الثاني: أن الصعيد هو التراب ولا يجزئ غيره:
وهذا مذهب الشافعي والحنابلة وأبي ثور وإليه جنح ابن المنذر([66]) ومما احتجوا به:
1- زيادة وردت في حديث «جعلت لي الأرض مسجدًا، [وجعلت تربتها لي طهورًا]» ([67]).
قالوا: فهذه الرواية مخصصة لرواية: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا».
2- ما رُوى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل لي التراب طهورًا، وجعلت أمتي خير الأمم»([68]).
قلت: والذي يترجح –عندي- هو القول الأول بأنه يجوز التيمم بكل ما يطلق عليه اسم الأرض، أو حمل شيئًا من الأرض كالغبار ونحوه.
وأما القول الثاني ففيه نظر من وجهين:
الأول: أنه لا يثبت شيء مما استدلوا به كما رأيت.
الثاني: أنهم حملوا معنى التربة في الحديث على التراب، وفيه نظر، ففي حديث أبي هريرة –عند مسلم- قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: «خلق الله –عز وجل- التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين.... » الحديث قال في «لسان العرب»: (خلق الله التربة يوم السبت): يعني الأرض. اهـ.
قلت: وهذا المعنى واضح من الحديث ولله الحمد.
فاقد الطهورين:
أصح قولي العلماء فيمن فقد الطهورين (الماء والصعيد) أنه يصلي على حاله في الوقت ولا إعادة عليه.
وهو مذهب الشافعي وأحمد وأصحابهما وابن حزم واختاره ابن تيمية([69]) واحتجوا بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}([70]).
وقوله سبحانه: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}([71]).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم»([72]).
قالوا: فهذا قد فعل ما في استطاعته من الصلاة، وسقط عنه ما لم يطقه من التطهر، فهو بذلك مؤدٍّ ما أمر به، ومن أدى ما أمر به فلا قضاء عليه.
قلت: ولعله أن يتأيد هذا المذهب بحديث عائشة قالت: «بعث رسول الله أسيد بن الحضير –وأنا سامعة- في طلب قلادة أضلتها عائشة، فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فأنزلت آية التيمم»([73]).
والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم –عند فقد الماء- على الصلاة بغير وضوء ولم يأمرهم بالإعادة، فإذا فقدوا الصعيد كذلك فالحكم هو هو. والله أعلم.
هذا، وقد ذهب أبو حنيفة وأصحاب الرأي ومالك والأوزاعي إلى أنه لا يصلى حتى يقدر على الوضوء أو التيمم وإن خرج الوقت([74]).



([1]) استفدت كثيرًا في هذا الباب من بحث كان أعدَّه شقيقي طارق سالم –أثابه الله- تمهيدًا للحصول على «الماجستير» في الشريعة.
([2]) المجموع (2/ 238)، والمغنى (1/ 148)، والمبسوط (1/ 106).
([3]) سورة البقرة، الآية: 267.
([4]) سورة المائدة، الآية: 6.
([5]) حسن: أخرجه أحمد (2/ 222) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
([6]) صحيح: أخرجه البخاري (348)، ومسلم (1535).
([7]) جاء في صحيح البخاري (345)، ومسلم (796) منع ابن مسعود التيمم من الجنابة، واحتجاج أبي موسى عليه بالآية، قلت: لعل منع ابن مسعود ذلك مُخَرَّج على ما صح عنه عند الطبري (9606) في تفسيره لقوله تعالى {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} بأن «الملامسة ما دون الجماع» فليُحرر.
([8]) المجموع (2/ 240).
([9]) سورة النساء، الآية: 43.
([10]) «تفسير الطبري» (9583) بسند صحيح عنه.
([11]) متفق عليه: وتقدم قريبًا.
([12]) صحيح: أخرجه البخاري (338)، ومسلم (798).
([13]) انظر المحلى (2/ 158).
([14]) سورة المائدة، الآية: 6.
([15]) المحلى (2/ 116)، والمغنى (1/ 148).
([16]) صحيح: أخرجه البخاري (334)، ومسلم (764).
([17]) إسناده صحيح: أخرجه مالك (الطهارة – ص 73)، والبيهقي (1/ 224).
([18]) المحلى (2/ 116)، والمغنى (1/ 148).
([19]) المحلى (2/ 137)، والمغنى (1/ 150)، والأوسط (2/ 32).
([20]) سورة التغابن، الآية: 16.
([21]) صحيح: أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (3199).
([22]) المجموع (2/ 312)، ومجموع الفتاوى (21/ 453).
([23]) الأوسط لابن المنذر (2/ 34).
([24]) الأوسط (2/ 28).
([25]) المغنى (1/ 165)، وانظر المجموع (2/ 281).
([26]) المجموع (2/ 316)، والمغنى (1/ 170).
([27]) المجموع (2/ 318)، والمغنى (1/ 170).
([28]) المغنى (1/ 171)، والمجموع (2/ 319).
([29]) المغنى (1/ 171)، والمجموع (2/ 319).
([30]) السابق.
([31]) المغنى (1/ 170)، والمجموع (2/ 318).
([32]) سورة المائدة، الآية: 6.
([33]) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح.
([34]) سورة النساء، الآية: 29.
([35]) روى هذا عبد الرزاق في «المصنف» (861) بسند صحيح.
([36]) المجموع (2/ 330).
([37]) المبسوط (1/ 121)، والمجموع (2/ 331)، والمحلى (2/ 116)، والأوسط (2/ 26)، ومجموع الفتاوى (21/ 399).
([38]) سورة البقرة، الآية: 185.
([39]) راجع ص (192).
([40]) المبسوط (1/ 112)، والمجموع (2/ 333).
([41]) المغنى (1/ 162)، والمجموع (1/ 162)، ومجموع الفتاوى (21/ 466).
([42]) ضعيف: أخرجه أبو داود (336)، والدارقطني (1/ 190)، والبيهقي (1/ 237) وسنده ضعيف، وقد حسنه الألباني بحديث ابن عباس عند أبي داود (337)، وابن ماجه (572) لكنه منقطع لا يصلح للاستشهاد.
([43]) إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي (1/ 228).
([44]) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (865).
([45]) المبسوط (1/ 122)، والمجموع (2/ 330)، والاستذكار (3/ 173)، والمغنى (1/ 163)، والمحلى (2/ 134)، ومجموع الفتاوى (21/ 399).
([46]) سورة النساء، الآية: 29.
([47]) ضعيف: أخرجه أبو داود (334)، وأحمد (4/ 203)، والدارقطني (1/ 178)، والحاكم (1/ 177)، والبيهقي (1/ 225) وقد أعل سنده ومتنه، وقد صححه الألباني في الإرواء (1/ 182) بما لا يسلم.
([48]) سورة المائدة، الآية: 6.
([49]) المغنى (1/ 166)، والمجموع (2/ 280)، والاستذكار (3/ 171)، وتمام المنة (ص 132).
([50]) سورة المائدة، الآية: 6.
([51]) صحيح: أخرجه البخاري (6954)، ومسلم (526).
([52]) صحيح: أخرجه مسلم (524)، والترمذي (1)، وابن ماجه (272).
([53]) المغنى (1/ 166)، والمحلى (2/ 117)، ومجموع الفتاوى (21/ 439، 456)، والأوسط (2/ 30).
([54]) المبسوط (1/ 118، 119).
([55]) صحيح: أخرجه البخاري (337)، ومسلم (800).
([56]) الأوسط (2/ 30)، والمحلى (2/ 117)، ومجموع الفتاوى (22/ 35- 36).
([57]) صحيح: أخرجه مسلم (1532)، وأبو داود (437)، وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك»، وفي لفظ لمسلم من حديث أنس: «من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها».
([58]) الاستذكار (3/ 157)، والمبسوط (1/ 108)، ومجموع الفتاوى (21/ 364)، والمحلى (2/ 158).
([59]) سورة الكهف، الآية: 40.
([60]) سورة الكهف، الآية: 8.
([61]) صحيح: وتقدم قريبًا.
([62]) صحيح: أخرجه البخاري (4712)، ومسلم (472).
([63]) حسن: وتقدم قريبًا.
([64]) صحيح: تقدم قريبًا.
([65]) إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 161).
([66]) المغنى (1/ 155)، والمجموع (2/ 246)، والاستذكار (3/ 159)، والأوسط (2/ 43).
([67]) صحيح أخرجه مسلم (522)، وابن حبان (1697)، والدارقطني (1/ 175)، والبيهقي (1/ 213- 230) وقد تكلم في الزيادة، والصواب ثبوتها.
([68]) منكر أخرجه أحمد (1/ 98)، والبيهقي (1/ 213).
([69]) المغنى (1/ 157)، والمجموع (2/ 321)، والمحلى (2/ 138)، والفتاوى (21/ 467).
([70]) سورة التغابن، الآية: 16.
([71]) سورة البقرة، الآية: 286.
([72]) صحيح: أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (3199).
([73]) صحيح: أخرجه البخاري (5882)، ومسلم (795).
([74]) الأوسط (2/ 45)، والاستذكار (3/ 150)، والمحلى (2/ 139). 
Post a Comment

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق