المسح على الحوائل
أولاً: المسح على الخفين:
تعريف: الخُف: نعل من أدم (جلد) يغطي الكعبين([1])
(والكعبان: العظمتان الناتئتان في القدم).
والمسح لغة: مصدر مسح، وهو إمرار اليد على الشيء بسطًا([2])،
والمسح على الخفين: إصابة البلية لخف مخصوص في محل مخصوص وزمن مخصوص([3])
بدل غسل الرجلين في الوضوء.
مشروعية المسح على الخفين:
أجمع أهل العلم على أن من أكمل طهارته ثم لبس خفيه، وأحدث، أن له أن يمسح
عليهما([4])،
قال ابن المبارك: ليس في المسح على الخفين اختلاف أنه جائز، وذلك أن كل من روى عنه
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كره المسح على الخفين، فقد روى عنه غير ذلك([5])
وقد ثبتت مشروعيته بالسنة الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحسن
ما يدل على مشروعيته حديث همام قال: «بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل: تفعل
هذا؟ فقال: نعم، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه»
قال الأعمش: قال إبراهيم: كان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول
المائدة([6]).
حُكم المسح على الخفين:
المسح على الخفين جائز والغَسل أفضل منه عند الجمهور، وعند الحنابلة: الأفضل
المسح على الخفين أخذًا بالرخصة([7]).
والصواب: أن الأفضل في حق كل أحد بحسب قدمه، فللابس الخف أن يمسح عليه، ولا
ينزع خفيه اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولمن قدماه مكشوفتان الغَسل،
ولا يتحرى لبسه ليمسح عليه([8])
ولا يتحرى نزعه –في
المدة- ليغسل رجليه، والله أعلم.
مدة المسح على الخفين:
حدد الشرع مدة المسح على الخفين بثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوم وليلة
للمقيم، وعلى هذا جماهير العلماء: الأحناف والحنابلة وظاهر مذهب الشافعي في الجديد
والظاهرية([9]).
ويدل على ذلك ما يلي:
1- حديث عليٍّ رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ثلاثة أيام
ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم»([10]).
2- حديث عوف بن مالك الأشجعي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على
الخفين في غزوة تبوك: ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم»([11]).
3- حديث صفوان بن عسال قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا
كنا سفرًا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول
ونوم»([12]).
وخالف في هذا مالك –وهو القول القديم للشافعي- فرأى عدم التوقيت وأن له أن يمسح على خفيه ما لم
ينزعهما أو تصبه جنابة!! وبه قال الليث([13])،
واستدلوا بأحاديث ضعيفة منها:
1- ما يُروى عن أُبيِّ بن عمارة قال: قلت: يا رسول الله، أمسح على الخفين؟
قال: «نعم» قلت: يومًا؟ قال: «يومًا»، قلت: ويومين؟ قال: «ويومين» قلت: وثلاثة؟
قال: «وما شئت»([14]).
2- ما يُروى عن خزيمة بن ثابت قال: «جعل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثلاثًا، ولو استزدناه لزادنا»([15])
يعني المسح على الخفين للمسافر، وهذا لو صح لم تقم به حجة لأنه ظن الصحابي ولم
نتعبد به.
3- ما يُروى عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأ
أحدكم ولبس خفيه فليصلِّ فيهما، وليمسح عليهما، ثم لا يخلعهما إن شاء إلا من
جنابة»([16]).
وهذه كلها أحاديث ضعيفة لا تصلح للاحتجاج بها.
4- أثر عقبة بن عامر أنه قال: خرجت من الشام إلى المدينة، فخرجت يوم الجمعة،
ودخلت المدينة يوم الجمعة، فدخلت على عمر بن الخطاب فقال: متى أولجت خفيك في
رجليك؟ قلت: يوم الجمعة، قال: وهل نزعتهما؟ قلت: لا، قال: أصبت([17]).
وهو ضعيف كذلك، قال البيهقي: قد روينا عن عمر التوقيت، فإما أن يكون رجع إليه حين
بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون قوله الموافق للسنة الصحيحة
المشهورة أولى. اهـ. ولذا قال ابن حزم في «المحلى» (2/ 93): ولا يصح خلاف التوقيت
عن أحد من الصحابة إلا ابن عمر فقط. اهـ.
بداية مدة المسح: تقرر أن مدة المسح للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام
بلياليهن، فمتى يبدأ حساب هذه المدة؟ لأهل العلم في هذا أقوال:
الأول: يبدأ من أول حدث بعد اللبس، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأبي
حنيفة وأصحابه، وظاهر مذهب الحنابلة([18])،
قالوا: لأن ما بعد الحدث زمن يستباح فيه المسح، فكان من وقته كبعد المسح.
الثاني: يبدأ من وقت اللبس، وهو قول الحسن البصري([19]).
الثالث: أنه يمسح خمس صلوات (أو خمس عشرة للمسافر) لا يمسح أكثر من ذلك، وهو
مذهب الشعبي وإسحاق وأبي ثور وغيرهم([20]).
الرابع: يبدأ من حين يجوز له المسح بعد الحدث سواء مسح أو لم يمسح ولم
يتوضأ، بحيث لو مسح بعد ما مضى بعض المدة كان له أن يمسح باقيها فقط، وهو مذهب ابن
حزم وقد ناقش أكثر المذاهب، فليراجع([21]).
الخامس: يبدأ من حين أول مسح بعد الحدث([22]):
وهو قول أحمد بن حنبل والأوزاعي، واختاره النووي وابن المنذر وابن عثيمين، وهو
أرجح الأقوال، لظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يمسح المسافر» ولا يمكن أن
يصدق عليه أنه ماسح إلا بفعل المسح، ولا يجوز العدول عن هذا الظاهر بغير برها. والله
أعلم.
وعلى هذا، لو أن رجلاً توضأ عند صلاة الظهر، ولبس خفيه الساعة الثانية عشرة
مثلًا وبقي على طهارة حتى الساعة الثالثة عصرًا، ثم أحدث ولم يتوضأ إلا الساعة
الرابعة –بعد العصر- ومسح على خفيه،
فله أن يمسح عليهما حتى الساعة الرابعة عصرًا من اليوم التالي –إن كان مقيمًا- ومن اليوم
الرابع إذا كان مسافرًا.
إذا مسح المقيم ثم سافر:
من مسح على خفيه –وهو مقيم- أقل من يوم وليلة، ثم سافر، فللعلماء فيه قولان:
الأول: له أن يمسح حتى يتم ثلاثة أيام بلياليهن (بما في ذلك ما مسحه وهو
مقيم): وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه ورواية عن أحمد وبه قال ابن حزم([23]).
الثاني: له أن يمسح حتى يتم يومًا وليلة ثم يلزمه غسل رجليه إذا توضأ، وهو
قول الشافعي وأحمد وإسحاق([24]).
والأرجح أنه له المسح حتى تمام ثلاث الأيام ولياليهن، لأن هذا الرجل إذا
انتهى يوم وليلة وهو مسافر فله أن يتم المدة لظاهر حديث «يمسح المسافر ثلاثة أيام
ولياليهن» والله أعلم.
إذا مسح –وهو
مسافر- ثم أقام:
من مسح على خفيه وهو مسافر يومًا وليلة أو أكثر ثم قدم الحضر، فلابد أن
يخلع خفيه، ويغسل رجليه إذا توضأ، ثم يكون له ما للمقيم.
وإن كان مسح –وهو
مسافر- أقل من يوم وليلة، جاز له إذا قدم الحضر أن يكمل ما تبقى من اليوم والليلة
ثم عليه أن يخلعه.
وقد نقل ابن المنذر إجماع كل من يقول بالتحديد في المسح من أهل العلم على
هذا([25]).
شرط المسح على الخفين:
يشترط لجواز المسح على الخفين أن يلبسهما على طهارة، فعن المغيرة بن شعبة
قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير، فأفرغت عليه من الإداوة، فغسل
وجهه وذراعيه ومسح برأسه، ثم أهويت لأنزع خفيه، فقال: «دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين»
فمسح عليهما([26]).
والحديث قد جعل الطهارة قبل لبس الخف شرطًا لجواز المسح، والمعلَّق بشرط لا
يصح إلا بوجود ذلك الشرط، وقد حمل الجمهور الطهارة على الشرعية في الوضوء([27]).
فائدة:
من توضأ فغسل إحدى رجليه وأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف، فقال
مالك والشافعي وأحمد([28]):
لا يجوز له إن أحدث أن يمسح عليهما، لأنه لبس الخف قبل تمام الطهارة، فإن نزع
الأول ثم لبسه جاز له المسح عندهم وقال أبو حنيفة وأحمد –في إحدى الروايتين- وابن حزم واختاره ابن المنذر وشيخ الإسلام([29])
أنه يجوز له المسح عليهما لصدق أنه أدخل كلاًّ من رجليه وهي طاهرة.
قلت: القول بالجواز لا غبار عليه، إلا أن يدلَّ دليل على أن الطهارة لا
تتبعَّض فيتَّجه المنع، وعلى كلٍّ الأحوط إدخالهما في الخفين بعد تمام الوضوء، والله
أعلم.
هل يمسح على الخف المُخرَّق؟
اشترط أكثر الفقهاء لجواز المسح على الخف أن يكون ساترًا للمحل المفروض
غسله في الوضوء، فمنعوا المسح على الخف المخرق لأنه يرى منه مواضع الوضوء التي
فرضها الغسل، ولا يجتمع غسل ومسح، فغلب حكم الغسل، وهذا مذهب الشافعي وأحمد([30]).
وقال مالك وأبو حنيفة: يجوز المسح على الخف المخرق ما دام المشي فيه ممكنًا
واسمه باقيًا، وهو قول الثوري وإسحاق وأبي ثور وابن حزم واختاره ابن المنذر وابن
تيمية([31])
وهو الصواب لأن الإذن بالمسح على الخفين عام يدخل فيه كل ما وقع عليه اسم الخف على
ظاهر الأخبار ولا يستثنى خف دون خف إلا بدليل، ولو كان الخرق يمنع من المسح لبينه
صلى الله عليه وسلم لا سيما مع كثرة فقراء الصحابة في عهده، والغالب أن لا تخلو
خفافهم من الخروق.
محل المسح وصفته:
المشروع في المسح على الخفين أن يمسح ظاهرهما لا باطنهما مرة واحدة لحديث
علي بن أبي طالب قال: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، لقد
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه»([32]).
وهذا مذهب الثوري والأوزاعي وأحمد وأبي حنيفة وأصحابه([33])
وهو الصواب.
وقال مالك والشافعي([34]):
يمسح ظاهرهما وباطنهما، وإن اقتصر على أعلاه أجزأ، واستُدل له بحديث المغيرة بن
شعبة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح أسفل الخف وأعلاه»([35])
وهو ضعيف بل الثابت عن المغيرة قوله: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على
ظهر الخفين»([36])
فلا يكون المسح إلا على أعلى الخف فقط.
فإن اقتصر على باطن الخف دون أعلاه لم يجزئه المسح، والله أعلم.
ما يبطل به المسح على الخفين:
تقدم في حديث صفوان بن عسَّال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا
إذا كنا سفرًا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول
ونوم» فعلم أن المسح على الخفين لا يصح إذا حدث أحد الأمور الآتية:
1- الجنابة: وغيرها مما يوجب الغُسل، كالطهر من الحيض والنفاس.
2- انقضاء مدة المسح.
3- نزع الخف والإحداث قبل لبسه:
فإذا نزع خفَّه –ولو قبل انقضاء المدة- ثم أحدث، فلا يجوز أن يلبسه ويمسح عليه، لأنه حينئذ
لم يدخل رجله على طهارة.
فإن حدث شيء من هذه الأمور الثلاثة لم يحل له أن يمسح على خفيه، وإنما يجب
عليه إذا أحدث أن يتوضأ ويغسل رجليه ولابد، ثم يكون له أن يلبس خفيه ويمسح كما
تقدم.
تنبيه: بطلان المسح لا يعني انتقاض الوضوء:
من كان يمسح على خفيه، ثم خلعهما، ولم يُحدث، فللعلماء في حكمه أربعة أقوال:
الأول: عليه أن يعيد الوضوء، وهو مذهب النخعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق([37])
والشافعي في القديم قالوا: لأن المسح أقيم مقام الغسل فإذا أزال الممسوح بطلب
الطهارة في القدمين فتبطل جميعها لأنها لا تتجزأ.
الثاني: عليه أن يغسل قدميه فقط، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه وأبي
ثور والقول الجديد للشافعي([38]).
الثالث: عليه أن يغسل قدميه فور خلعه، فإن تأخر أعاد الوضوء: وهو مذهب مالك
والليث([39]).
الرابع: ليس عليه وضوء ولا غسل لقدميه، وهو رواية عن النخعي وبه قال الحسن
البصري وعطاء وابن حزم واختاره النووي وابن المنذر وابن تيمية([40])،
وهو الصواب: لأنه –والخف
عليه- طاهر كامل الطهارة بالسنة الثابتة، ولا يجوز نقض ذلك إذا خلع خفه إلا بحجة
من سنة أو إجماع، وليس عند القائلين بإعادة الوضوء أو غسل الرجلين حجة، ويقوي هذا
القول ما ثبت عن أبي ظبيان «أنه رأى عليًّا رضي الله عنه بال قائمًا، ثم دعا بماء،
فتوضأ ومسح على نعليه، ثم دخل المسجد فخلع نعليه ثم صلى»([41]).
ثم يقاس على من مسح الشعر ثم حلقه فإنهم لا يقولون بإعادة مسح الرأس أو
إعادة الوضوء!! وهذا هو الحق في المسألة، فإذا خلع خفيه ولم يُحدث فإن له أن يصلي
ما شاء حتى ينتقض وضوؤه والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق