الثلاثاء، 20 فبراير 2018

6. الطهارة الحكمية. باب الطهارة

ثانيًا الطهارة الحكمية:
أنواع المياه:
المياه على اختلاف أصنافها، لا تخرج عن نوعين: 1- الماء المطلق (الماء الطهور): هو الباقي على أصل خلقته، وهو كل ما نبع من الأرض أو نزل من السماء، قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ}([1]).

ويدخل في هذا: مياه الأنهار والثلوج والبَرَد والآبار، حتى وإن تغير بطول مكثه أو بمخالطة طاهر لا يمكن صونه عنه.
وكذلك مياه البحار، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ماء البحر-:
«هو الطهور ماؤه الحلُّ ميتتُه»([2]).
وهذا يجوز الوضوء والغسل به بلا خلاف بين أهل العلم، وإن خالطه طاهر يسير ما دام داخلاً تحت اسم الماء، ففي حديث أم هانئ: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل هو وميمونة من إناء واحد من قصعة فيها أثر العجين»([3]).
ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن غسَّلن ابنته زينب بقوله: «اغسلنها ثلاثًا بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورًا»([4]).
أما إذا خالطه طاهر فأخرجه عن مسمى الماء إلى مسمى آخر كالشاي مثلًا فلا يجوز التطهر به وكذلك لا يجوز التطهر من الحدث بما اعتصر من الطاهرات كماء الورد ونحوه لأنه ليس ماءً على الحقيقة، قال ابن المنذر([5]): «أجمع كل من نحفظ قوله من أهل العلم أن الوضوء غير جائز بماء الورد، وماء الشجر، وماء العصفر، ولا تجوز الطهارة إلا بماء مطلق يقع عليه اسم الماء» اهـ.
2- الماء النجس: وهو الذي خالطته نجاسة وأثرت في أحد أوصافه: فغيرت ريحه أو لونه أو طعمه، بحيث يظن مستعمله أنه يستعمل النجاسة.
وهذا لا يجوز الوضوء به، لأنه نجس في نفسه.
الوضوء بالماء المتساقط من أعضاء الوضوء:
الماء المتساقط من أعضاء المتوضئ ونحوه يسمى «الماء المستعمل» وقد وقع الاختلاف بين أهل العلم فيه: هل يخرج بذلك عن كونه مطهرًا أم لا؟
والراجح أنه يبقى مطهرًا ما دام لم يخرج عن اسم الماء المطلق، ولم تخالطه نجاسة فأثرت في أحد أوصافه.
وهذا مذهب علي بن أبي طالب، وابن عمر، وأبي أمامة، وجماعة من السلف، والمشهور من مذهب مالك، وهو إحدى الروايتين عن الشافعي وأحمد، ومذهب ابن حزم، وابن المنذر، واختاره شيخ الإسلام([6]) ويؤيد هذا القول ما يأتي:
1- أن الأصل أن الماء طهور ولا ينجسه شيء، قال صلى الله عليه وسلم: «الماء طهور لا ينجسه شيء»([7]) إلا إذا تغير أحد أوصافه، أو خرج عن اسم الماء المطلق بملاقاة طاهر.
2- أنه قد ثبت أن الصحابة كانوا يستعملون فضل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم:
(أ) فعن أبي جحيفة قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فأُتي بوضوء فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به»([8]).
قال الحافظ في الفتح (1/ 353): ويحتمل أن يكونوا تناولوا ما سال من أعضاء وضوئه صلى الله عليه وسلم، وفيه دلالة بينة على طهارة الماء المستعمل. اهـ.
(ب) وفي حديث المسور بن مخرمة: «... وإذا توضأ النبي صلى الله عليه وسلم كادوا يقتتلون على وضوئه»([9]).
(جـ) عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه، ومج فيه، ثم قال له ولبلال: «اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما»([10]).
3- عن ابن عمر قال: «كان الرجال والنساء يتوضئون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا»([11]).
وفي رواية: «كنا نتوضأ نحن والنساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ندلي فيه أيدينا».
4- عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يغتسل بفضل ميمونة»([12]).
5- عن الرُّبيّع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وسلم: «مسح برأسه من فضل ماء كان في يده»([13]).
6- قال ابن المنذر في الأوسط (1/ 288): وفي إجماع أهل العلم أن الندى الباقي على أعضاء المتوضئ والمغتسل وما قطر منه على ثيابهما طاهر، دليل على طهارة الماء المستعمل، وإذا كان طاهرًا فلا معنى لمنع الوضوء به بغير حجة يرجع إليها من خالف القول. اهـ.
هذا، وقد قالت طائفة من العلماء: لا يجوز الوضوء بالماء المستعمل، وبهذا قال مالك والأوزاعي والشافعي في إحدى الروايتين- وأصحاب الرأي([14]).
ولم يسلم لهم من الأدلة ما يُطمأن إليه، فليراجعها من شاء في المراجع المشار إليها.
يجوز للرجل أن يغتسل بفضل المرأة:
لأهل العلم في حكم تطهر الرجل بالماء المتبقي من وضوء المرأة أو غسلها مذهبان:
الأول: لا يجوز للرجل التطهر بفضل المرأة:
وهو مذهب ابن عمر وعبد الله بن سرجس رضي الله عنهما وأم المؤمنين جويرية بنت الحارث والحسن وأحمد بن حنبل وإسحاق والشعبي وداود الظاهري([15]) وحجتهم:
1- ما رُوي عن الحكم بن عمرو وهو الأقرع- أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة»([16]).
2- وعن حميد الحميري قال: لقيت رجلاً صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين كما صحبه أبو هريرة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة [وليغترفا جميعًا]» ([17]).
3- ما رُوي عن علي بن أبي طالب قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم وأهله يغتسلون من إناء واحد، ولا يغتسل أحدهما بفضل صاحبه»([18]).
الثاني: أنه يجوز للرجل التطهر بفضل المرأة:
وبه قال عمر وأبو هريرة وعبد الله بن عباس وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وجماعة من السلف، وأبو عبيد وابن المنذر، وهو مذهب الحنفية، ومالك والشافعي ورواية أحمد([19]) واحتجوا بما يأتي:
1- عن عبد الله بن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة»([20]).
2- عن ابن عباس قال: «اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله، إني كنت جنبًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الماء لا يجنب»([21]).
3- عن عائشة قالت: «كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، كلانا جنب»([22]) وفي رواية: «... نغترف منه جميعًا».
الراجح:
الذي يسلم من أدلة المذهب الأول حديث الرجل الذي صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين على أنه قد غمز فيه البيهقي- مع أدلة المذهب الثاني، ويمكن الجمع بين الأدلة بأحد أمرين([23]):
1- أن تحمل أحاديث النهي على ما تساقط من الأعضاء، وأحاديث الجواز على الماء المتبقي في الإناء، وبهذا جمع الخطابي.
2- أن يحمل النهي على التنزيه مع جواز الأمرين.
قلت: ولعل هذا الثاني أولى والله أعلم.




([1]) سورة الأنفال، الآية: 11.
([2]) صحيح: أخرجه أبو داود (83)، والترمذي (69)، والنسائي (1/ 176)، وابن ماجه (386).
([3]) صحيح: أخرجه النسائي (240)، وابن ماجه (378).
([4]) صحيح: أخرجه البخاري (1253)، ومسلم (939).
([5]) المغني (1/ 11)، والمحلى (1/ 199).
([6]) المغنى (1/ 31)، والمجموع (1/ 205)، والمحلى (1/ 183)، ومجموع الفتاوى (20/ 519)، والأوسط (1/ 285).
([7]) حسن: أخرجه أبو داود (266)، والترمذي (66)، والنسائي (1/ 174).
([8]) صحيح: أخرجه البخاري (187).
([9]) صحيح: أخرجه البخاري (189).
([10]) صحيح: أخرجه البخاري (188).
([11]) صحيح: أخرجه البخاري (193)، وأبو داود (79)، والنسائي (1/ 57)، وابن ماجه (381)، والرواية بعده لأبي داود بسند صحيح.
([12]) صحيح: أخرجه مسلم (323) وهو في الصحيحين بلفظ «كانا يغتسلان من إناء واحد».
([13]) حسن: أخرجه أبو داود (130)، والدارقطني (1/ 87).
([14]) الاستذكار (1/ 253)، والتمهيد (4/ 43)، والمغنى (1/ 19)، والأوسط (1/ 285).
([15]) الأوسط (1/ 292)، والمغنى (1/ 282).
([16]) أعلَّه الأئمة. أخرجه أبو داود (82)، والترمذي (64)، والنسائي (1/ 179)، وابن ماجه (373)، وأحمد (5/ 66) وأعله البخاري والدارقطني والنووي، وصححه ابن حجر والألباني في الإرواء (1/ 43).
([17]) إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (81)، والنسائي (1/ 130)، والبيهقي (1/ 190).
([18]) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1/ 133).
([19]) مصنف عبد الرزاق (1/ 110)، وابن أبي شيبة (1/ 38)، والأوسط (1/ 297)، والطهور لأبي عبيد (236)، والمبسوط (1/ 61)، والأم (1/ 8)، والمغنى (1/ 283).
([20]) صحيح: تقدم تخريجه.
([21]) أخرجه أبو داود (68)، والترمذي (65)، والنسائي (1/ 173)، وابن ماجه (370) وقد أعله بعض العلماء برواية سماك عن عكرمة، فهي مضطربة، لكن رد عليهم الحافظ في «الفتح» بأن شعبة قد رواه عنه، وهو لا يحمل عن شيوخه إلا صحيح حديثهم، والله أعلم.
([22]) صحيح: أخرجه البخاري (299)، ومسلم (321).
([23]) «فتح الباري» (1/ 300- المعرفة)، و«سبل السلام» (1/ 28)، و«نيل الأوطار» (1/ 26). 
Post a Comment

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق